نحو وعي جمالي بالرواية الجديدة - خارطة التوازي في رواية التل لسهيل سامي نادر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
05/03/2014 06:00 AM
GMT



لا جرم أن الأنماط المتعددة لتحليل الرواية باتت مملة ومضجرة ، ولا جرم أيضا أننا اليوم بحاجة إلى وعي بالرواية يبتعد عن فكرة التحليل التي تقضي على الرواية بوصفها جسدا إبداعيا وتحيلها رميما لا فائدة منه ، وعي يتجسد في الانهمام بالرواية بعيدا عن حذلقات التركيب البنائية ، وبعيدا عن حذلقات التأويل المجازية ، قريبا من هموم الفرد المعاصر .
لقد ابتدأت الدراسات الروائية على يد النقاد الغربيين منذ تباشير البنيوية لتظهر حينها مناهج واتجاهات تهتم بالرواية بوصفها تصويرا لعالم حقيقي يجسد الطبقات وحواراتها من خلال الشخصيات الروائية ، لينتقل النقد الروائي بعد ذلك نحو تحليل الألسنة الروائية وتعدد الأصوات ، ثم لتظهر أخيرا الاتجاهات التي ركزت على تصوير وجهات النظر وعالم الروي ، وفي كل الأحوال نحن نباشر الرواية بوصفها شبكة علاقات ينبغي على القارئ التقاطها من أجل إبرازها بوصفها العالم الروائي بكامله ، وفي غمرة هذه الاهتمامات نسينا الانهمام بالعالم الحقيقي الذي تنقله الرواية لنصب اهتمامنا على العالم البنائي لها .
يرى بعض الباحثين بأن الاتجاهات النقدية التي دارت حول السرد عموما يمكن تقسيمها على قسمين الأول يتعامل مع السرد بوصفه مجموعة من الأجزاء المتعاقبة ، ذات بناء زمني وحدثي طولي ، أي أنه يتعامل مع بنية السرد أفقيا ، منطلقا من تحليل البناء التركيبي للغة في الدراسات اللغوية ، وأما الاتجاه الثاني فهو يعمد إلى تحليل بنية النص السردي عموديا وذلك بتمييز المستويات المتراكبة التي يتكون منها النص ، فالنص علامة ذات مستويات بناء رأسية تكونت من محاكاة مجموعة من الأحداث عبر آليات اللغة وبقوانين بناء خاصة ، وهو لذلك يعتمد على التأويل بوصفه الفاعلية النقدية المميزة للتحليل "1 " .
لقد تعامل البنيويون مع بنية الرواية وفق النظرة الأفقية ونظروا إلى اتجاههم في الدراسة على أنه نحوٌ للرواية ، يعتمد على بنية باطنة أو مبدأ عميق محدود تصدر عنه صور متعددة من الأداء اعتمادا على التفريق المعروف لسوسير بين اللغة والكلام " " والمأزق الذي تقع فيه هذه الرؤية أنها تستخرج بنية ثابتة أو وظيفة لمجموعة من الأحداث ، فقيام قيصر بمنح بطل نسرا يحمله إلى مكان آخر أو قيام شخص أسطوري بمنح البطل حصانا لينقله إلى مكان آخر ، يعني أن الوظيفة ثابتة ألا وهي قيام شخص ما بمنح شخص آخر أمرا يساعده على الانتقال إلى مكان آخر " 2" وإذا كان بروب هو صاحب هذه الفكرة التجريدية فإن جريماس أضاف إليها تجريدا أكبر حين اختصر هذه الوظائف في تقابلات ضدية فتحدث مثلا عن الفاعل والمفعول وعن المرسل والمستقبل وعن المعين والمناوئ بدلا عن الحديث عن العديد من أنماط الشخصيات"3 " ودراسة الرواية وفق هذا الاتجاه تعنى بالإحصاء الدقيق لمفاصل الرواية من أجل التوصل إلى البنيات التي تحكمها ، وفي هذا ما فيه من قتل لعملية الروي وقيمتها الأدبية والتوجه صوب البحث عن العلة التي قادت إليه .
كما تطالعنا التحليلات الأخيرة للرواية بتأشير أشكال التبئير وأشكال الرواة والعلاقات المتعددة التي تنشأ بين عناصر البناء الروائي من زمان ومكان وأحداث وغيرها ، أصبح الناقد في هذه التحليلات شخصا واعيا بطريقة بناء النص الروائي يطلعنا على أسرار وتقنيات قام الروائي أو الراوي بتلغيزها ، وكأننا أمام لغز يجب اكتشافه ، أو كأننا أمام لوحة يعيد الناقد رسمها مجردة من الحوارات ومضامينها والأحداث ومغزاها والشخصيات وتصرفاتها ، لوحة باهتة لا تهتم بسوى تجريد خطاطي ينصب على ما هو خارج العمل الروائي الحقيقي ليترك العالم المعاش بلا اهتمام.
وهذا جيرار جينيت يضيف إلى التحليلات السردية أبعادا جديدة تنطلق من فهمه للعلاقة بين المقولات الثلاث وهي مقولة الزمن والفارق بين زمن القصة وزمن الخطاب ، ومقولة الوجه المتعلقة بوجهة النظر ، ومقولة الصيغة المتعلقة بنمط الخطاب المستعمل والمسافة " 4" وفي هذا الاتجاه من التحليل ينصب الجهد على تبيين المفارقة بين الزمن الحقيقي والزمن السردي والمفارقة بين الشخصيات ووجهات النظر والمفارقة في الأمكنة ، وكأني بجينيت ينطلق من مبدأ أساسي لبناء الرواية ألا وهو مفارقتها للقصة الحقيقية كما وقعت بالضبط ، وفي هذا ما فيه من الاهتمام بفنية القصة وحذلقاتها بعيدا عن أهميتها بوصفها أدبا .
وفي مقابل ذلك يحاول بحثنا التركيز على عالم روائي حقيقي ومعيش تنقله لنا الرواية ، فبعد كل التحليلات التي وضعت بصدد الآلاف من الروايات ، هناك ما يتبقى من الرواية بوصفه الحياة على حقيقتها التي لم يحاول النقاد التقرب منها ، هناك ما تبقى – وهو الأغلب في الرواية والأهم – بعد كل الركام المحيط بالعالم المعاش لم يتم التقرب منه ، هناك المعاش على حقيقته ، المعاش المؤلم ، المعاش الجسدي ، المعاش المعاش .
وإن سئلت عن سبب اختيار رواية التل لسهيل سامي نادر لعرض الوعي النقدي الجديد فيمكنني الإجابة ببساطة بأنها تمتثل لهذا الوعي ببراعة فائقة ، فقد تجاوزت الأنماط التقليدية التي كان الروائيون يلعبونها مع نقاد مماثلين ، لقد ظهرت هذه الرواية الفريدة عام 2003 وهي يتيمة لروائي ، بلغ من العمر عتيا ليتذكر بأنه كاتب روائي من الدرجة الأولى ، ظهرت لا لتعلب اللعبة القديمة نفسها مع نقاد يبحثون عن أنماط الرواة وأنماط التبئير لأنهم سيجدونها فقيرة وفق مقاييسهم ، بل لتمارس لعبة جديدة كل الجدة ، لعبة الحياة نفسها ، الحياة التي تغرينا بها ثم تفارقنا بلا رحمة ، وبلا أعذار ، وبلا عودة ، يقول حمزة الحسن عن رواية التل : ( لن تمر بسرعة على التاريخ الروائي العراقي حتى لو كان الامر يبدو كذلك بناءً على نظام ثقافي معروف يكون التجاهل فيه نوعا من العلم ...  لأن هذه الرواية المختلفة من كاتب مختلف تأتي تتويجا عراقياً على أن الرواية هي نص الاختلاف وليس المتشابه )" 5" .
في الوقت الذي تطالعنا فيه تحليلات أخرى لا تحيط بالرواية بل تنتمي إلى ما يمكن تسميته أفق الانطباعات ، فهذه جريدة الرياض تقرر : ( نستطيع أن ننسبها إلى ما يمكن أن نسميه صياغة جديدة للطريقة التي عرفت بتيار الوعي )" 6" بعد أن لوحظ فيها الكثير من الاستذكارات والتأملات ، وهو تشخيص غير موفق لما بين نمط رواية تيار الوعي وبين رواية التل من اختلاف كبير يكمن في كون الرواية تنتمي إلى أفق آخر يشي بتجاوزه للأنماط الحداثية التي كانت رواية تيار الوعي آخر تمثلاتها ، وتوجهه نحو المابعدية .
وأما زيد الشهيد فهو يقرأ الرواية قراءة اجتماعية تهتم بالسلوكيات الاجتماعية للعائلة وكأني به يريد من الرواية أن تكون تمثيلا اجتماعيا ، كما أنه يصب نقده التقليدي القائم على تمييز الجيد من الرديء على عمل إبداعي بامتياز ، عائدا بذلك بالنقد إلى عصوره القديمة دون معرفة كما يبدو بتيارات النقد الجديد ولا بالوعي المعاصر" 7"
لقد اخترت الرواية هذه لأنها تشبهنا اليوم ، فالرواية قائمة على فكرة التوازي ، تلك الفكرة التي تنبثق عنها أفكار ثانوية أخرى عديدة تؤسس لكيان الرواية كما تؤشر كيان العالم المعاصر بكل وضوح ، فالتوازي بوصفه فكرة بشرية يعني التأشير على أهمية الجسد ، وأهمية المطْلق ، والعلاقة التي تربطهما دوما وتشد أحدهما نحو الآخر بشغف وخوف في الآن ذاته.

 1- الجسد
ليس الجسد بهذا المفهوم سوى ذلك الجسد الحقيقي وهو يتجلى في الرواية ، الجسد الذي نمتلكه والذي يمنحنا حياتنا بكاملها ، قد يكون الجسد مؤطرا بأطر ثقافية متنوعة ولكنه في الآن نفسه يفرض هيبته وحضوره ، وهو يفاجئنا في الرواية أولا عبر عنوان الرواية نفسه ( التل ) فالروائي يصور لنا عالِما في البحث عن الآثار اسمه فؤاد لديه شهادة دكتوراه ومجموعة من الزملاء الذين يعملون معه ، وما التنقيب في التل إلا تنقيب من جهة أخرى في جسد تراثي يضم مدرسة أو مكانا لنسخ المخطوطات بين عامي 320 – 350 ه" 8" ، إنها إذن مهمة للتنقيب في جسد يعود أصله للتأريخ كما جسدنا الحقيقي .
وأول ما يطالعنا من صفات الأجساد تلك الأصوات المختلطة التي يسمعها الجسد باستمرار : ( أخذت الأصوات تأخذ شكلا ففضلا عن سماعي لهدير بعيد كأنه صوت عين طباخ مشتعلة أو شاحنة تواصل الابتعاد من دون أن ينقطع صوتها أخذت بعض الأصوات تتشكل في جمل واضحة ، سمعت صوتين مختلفين الأول قال أن الأوان قد فات وما يعنينا هو الإبلاغ والاستنقاذ والثاني قال بأن ليس للأموات من قوة غير قوة التخويف وتسميم الحياة ثم سمعت هذا الهتاف المباغت : لنكن سعالي أو سموما ، كان أشبه بنداء أو دعوة . بدا لي أنني أعرف هذين الصوتين... يتسارران برموز كنت أفهمها ولا أفهمها كانا يأتيان من عمق ما من تحت أغطية وأسمال من وراء بوابات ضخمة من بين أوراقي وصوري التي أفر منها كلما أراجعها وكانا على نحو ما يتكلمان بصوتي أنا وكنت على نحو ما أنكرهما ولا أميزهما من حالات تفكير كانت تمسك بي ولا تتركني إلا مصدوعا ومخوّفا ) "9 " واختلاط الأصوات بهذا الشكل العجيب وامتزاجها ومن ثم تحولها نحو الوضوح والتجمهر في جمل مفهومة ومحددة ، يشي بأن الجسد يعمل بكل طاقته ، إنه جسد متلهف للعالم يستقبل منه ما يأتيه ، وينتظر دوما إشارات من عوالم مجهولة قد لا تكون غريبة جدا أو بعيدة جدا ، بل أن تلك الأصوات تقترب في النهاية من أن تكون صوت السامع نفسه وهو يفكر .
ولكن هذه الأصوات يسمعها المحيطون أيضا وليس في أوقات الوحدة التي يعيشها المنقِب فقط : ( أغمضت عيني لبرهة من أجل أن أسمع بوضوح ما كنت اعتدت سماعه من أصوات الليل الأولى النشيش أولا ثم صفير متقطع ... كنت في الماضي أسمع ريحا عنيفة تمر عبر غابة مدارية وأشم رائحة مطر أحيانا أسمع أصوات أطفال يناغون في كوكب بعيد وفي ما نعتقد أنها هدأة ليل كانت أصواتهم تندمج في نحيب خافت ... وبدأنا نصغي لفم غامض يتكلم من حولنا )" 10" فالعبارة الأخيرة تتحدث عن مجموعة التنقيب التي ابتدأت كلها تسمع صوتا لفم غامض يتكلم ، وإذا أردنا معرفة ماهية الكلام الذي تبوح به هذه الأصوات فإنها مكتنزة في فقرتين الأولى تصرح بأن الأصوات هي لما يواصل الهرب من أمامنا باستمرار ، هذا النشيش والصفير المتقطع والذي يماثل لوحة كان المنقب علقها أمامه في غرفة منزله ، لوحة تظهر طائرا يعبر أفقا تاركا بعبوره ندبة تتلألأ بوهن كوشاح يظهر ويختفي بشكل يشبه تلويحة وداع أخيرة " 11" وأما الفقرة الثانية فتصرح بأن أصوات الماضي كانت عبارة عن نحيب مبلل بالمطر من أطفال يناجون من كوكب بعيد ، إنهما صوتا الحاضر والماضي ، الحاضر الذي يعبرنا مسرعا ملوحا بالوداع الأخير والماضي المنتحب على عدم العودة مجددا .
وفي مشهد اسمه بانتوميم يستعرض المنقب بعض حركاته الجسدية منقبا فيها أيضا : (أنزلت قدمي متمطيا محررا جسمي من الجلوس طويلا فتمطى في داخلي رجل آخر وخرج من جسمي وراقب كيف سأبدو بعد انقطاع طويل عن الحفريات ... توقعت أن يوافيني كل ما أحسست به في الماضي عند دخولي المخيمات إذ تلقيت هذا الحدث دائما بجسدي وبانتباه فالمشاهد المضطربة المودعة في جسدي من الطريق رأيتها تنسل خفيفة من تحت قدمي راجعة إلى الخلف فوازنتها بثقلي دافعا جسدي إلى الوراء قليلا )" 12" ولو كنا محللين نفسانيين لقلنا بأن هذا الرجل يعاني انفصاما من نوع ما ولكن التحديق بشكل واع في هذا المشهد الصامت يحيلنا إلى القول بالافتراق المؤقت بين الجسد والتفكير فيه ، ففي رحلة نحو التل من أجل التنقيب فيه تتجسد رحلة أخرى نحو الجسد للتعرف على همومه وانفعالاته ، وفي رحلة كهذه يحدث الانفصال بين جسد مراقِب وآخر مراقَب ، وما يلفت نظرنا هنا علاقة المشابهة والموازاة بين المشاهد المضطربة وبين حركات الجسد الانفعالية التي تأتي لموازاة الحقيقة ، فضلا عن التأثير الواقع من العالم الواقعي على الجسد وحركات الجسد المتوائمة معها ، وفي مشهد آخر يتضح بشكل كبير هذا الانفصال : ( انتفض جسدي على غير توقع ففكرت أن هذا غير محسوب ، كانت حساباته هو فقد تصلبت عضلاته وتكاثرت أوجاع ظهره وقدميه وشيء بارد تسلل من أصابعه لم يدرك كنهه بعد ... أنا أعرف جسدي من الاعتياد فهل الاعتياد معرفة ؟ الجسد يحتويني وحين يتألم لا يسألني ينأى عن توقعاتي فكيف أراضيه ؟ هل يعرف وكيف يعرف وما الفائدة ؟ ... أرجوك ليس في يومي الأول ، وعدتني أن أنام مبكرا وأنا موعود دائما بشيء ما ... ورأيت جسدي في ضوء غبشي يعاود أفعاله وارتكاساته آخذا بي إلى صحون أرضية تدور بسرعة قافزة منها علامات مذعورة متراجعة .. آه .. )"13 " فلنلاحظ أولا الانفصال بين الإدراك والجسد حدا يصل إلى إمكانية الحديث عن الجسد بضمير الغيبة ، وكأنه آخر مختلف عن الأنا الواعي ، ثم يمكننا أن نلاحظ العلاقة الحميمة بين الأنا والجسد الذي يحتويها ، والبحث عن الرضا مع الجسد ، وأخيرا يمكننا الانتقال نحو الحديث مع الجسد بعبارة الرجاء والرحلة المشتركة بينهما في فضاءات عميقة ملؤها الذعر والتراجع والعودة المستمرة بالخيبة وعدم التلاؤم التام .
ولكن هذا الانفصال يصل حد التماهي والضياع بين المراقِب والمراقَب : ( جسدي يفتح أمامي إمكانات معملية لتوليد ألف حالة من التفكير: أستيقظ من النوم فأراه شيئا غريبا عني ، محددا بقسوة ، مضغوطا أو مطبوعا على الفراش ، وأراه وأنا على ارتفاع منه ، فكأن لي جسدين ، الأول يتخيل الثاني ، فأنا في الحقيقة لا أراه بعيني بل أحسه بقوة ، مطبوعا ملتصقا في الأسفل ، وهو يعرف ذلك ، يعرف أنني أراه ، لكنه لسبب ما يفضل إدامة هذا الانفصال أطول مدة ، وحين تصبح الحالة مخيفة لا تحتمل ، كالموت ، أقفز من فراشي مرعوبا ، وأعيش يومي كله في حالة خطر وتفكير . والآن رأيتني مفكرا ، فمن ذا الذي رأى حقا )"14 " يصبح الجسد غريبا عن الأنا المدرِكة ، وينحاز نحو الأسفل في حين تتعالى الأنا وهي تدرك ، ولكن أليس المدرِك هو الجسد أيضا ؟ ألا ينظر بعيني الجسد ؟!، هذا ما يقرره بقوله أن له جسدين ، فلم يفضل الجسد إذن هذا الانفصال ؟ إنها رغبة المفكر المعاصر في أن يفصل بين عالمي الجسد والتفكير ، ولكن مجددا ، ألم يقرر منذ بداية المقطع بأن الجسد هو الذي يفتح إمكانات معملية لتوليد حالات التفكير؟ وهذه الحالات المعملية ألا ترتهن بالجسد وكيميائه أيضا؟ إن المسألة شائكة ولا يمكن الوصول معها إلى حل ، إلا بالخروج من نطاق الجسد .
ومن جهة أخرى تتم مماثلة جسد المنقِب بجسد التل قائلا : ( لكل تل طباعه وظواهره العامة وحيله ، كل يخفي شيئا ، نحن نشبه التلال الأثرية على نحو ما ، إنها مثلي أنا ، ... التل وأنا : شيئان غامضان ثقيلان ينزلان معا إلى مواقع مجهولة ومعارك صامتة ونتائج غير محسومة ،... وكان التل هناك ، وصلت إليه بقايا منهكة من الضوء حيث نسكر فراح يرقص رقصة أشباح غامضة في الظلمة ويتغامز )"15 " وهذه المماثلة والمقابلة بين المنقب والتل بحاجة إلى وقفة صغيرة فقد سبق أن رأينا أن العالم الواقعي يمكنه فقط التأثير على الجسد ، وأما في هذا المشهد فالمنقِب يرى بأن جلسة السكر التي جمعت المنقبين عكست أضواء منهكة على التل الذي راح يرقص ويتغامز ، العالم يحتفي بالجسد ويماثله ويتقرب منه ، العالم يومئ للجسد خلسة ويوصل إليه إشارات سرية ، وهذا ما يذكرنا بإشارات جسد العالم التي يتحدث عنها باولو كويلو في رواية الخيميائي " 16".
على أننا يجب أن نبتعد عن التأويلات التي تجعل من الحفر في التل حفريات تاريخية كما فعل حمزة الحسن الذي يرى أن الحفر في التل كان من أجل كشف الماضي ، وبسبب شكه في المماثلة بين التل والجسد تساءل : لكن اليس الجسد تراباً في البدء والمنتهى؟ إنه يحول الرواية إلى محاولة في مواجهة السلطة القائمة ، وفي تعرية الفرد ومخاوفه السياسية ، فضلا عن اسقاطات استجلبها من معرفته بالكاتب وعزلته كي يبرر رؤيته السياسية " 17" وأذكر أن سهيل سامي نادر قد ذكر في لقاء صحفي مع صحيفة الصباح الجديد أنه كتب روايته بعد العدوان الثلاثيني على وطنه واستشرافه الخراب الشامل المقبل ، ولكن هذا لا يمنحنا الحق بحمل الرواية على مشهد سياسي بالكامل فقد تكون الأحداث السياسية مجبرة على تغيير الأنماط الأدبية ولكن ليس كل حدث سياسي يؤدي إلى تغيير فيها ، وما علينا هنا إلا الإشارة إلى أن بوادر الخروج من أفق الحداثة نحو مابعدها تولدت فعلا منذ الحرب الثلاثينية على العراق عام 1990 ولكنها لم تبرز إلى الوجود حتى عام 2000 تقريبا وما بعده .
كما أن التحليلات النفسية تلغي الكثير من الرؤى المهمة للرواية وتجعل الرواية استعراضا طبيا يخدم التحليل النفسي أكثر مما يخدم الأدب فهذا حسين سرمك يرى ( أن الراوي يضفي سمات حيوية على التلّ؛ مانحاً إياه سمات كائن حيّ مقابل، يتفاعل معه ويتحداه، والأهم أنه يتماهى معه، كاشفاً من خلال عملية التماهي – Identification – هذه عن جوانب أساسية من فلسفة موقفه التنقيبي ومن الدوافع النفسية اللاشعورية التي لم تتحكم بمسارات حياته حسب بل في اختياره لمهنة التنقيب أيضا )" 18" ، كما أنه يعلق على النص الأخير المنقول عن الرواية بأنه شعور بغموض الذات واستغلاقها على مكبوتاتها مما يجعل الفرد في رحلة بحث وتنقيب دائمة تشغل حياته كلها وتنهك قواه وتوقعه في مآزق وخسارات بحثية جسيمة، وهذا ما حصل بالضبط في حياة الراوي ، مقصيا بشكل عنيف رؤية التل الفلسفية وموجها لدلالته نحو الغموض والاستغلاق للمكبوتات ، جاعلا من التل رمزا للاشعور في الرواية ومن علاقة الراوي بالتل علاقة قائمة على التغريب والانكار والتراجعات المربكة  .
وإذا عدنا إلى الرواية سنجد أنه فضلا عن المماثلة بين جسد المنقب وجسد التل تتم المماثلة من جهة أخرى بين جسد المنقب وأجساد الذين مروا بهذا المكان قبل أكثر من ألف عام واختاروه مكانا للبقاء : ( رأيتني بعد لحظات أستخرج خبرة أشباح مثلي جاؤوا إلى هذا المكان قبل ألف عام.. لا شك أنني مترع بالوجدانات المستعادة ، ... رأيت هواء ساخنا يتصاعد من الأرض تنعكس عليه ظلال وأشكال طولية رهيفة تتقدم إلى التل بثبات ، إذن ها هم أولاء نزلوا إلى القفر متعبين مهدهدين ولم يصدقوا أن يظهر لهم مبنى كالمعجزة ... كان شوقهم إلى الراحة والأمان قد وسع في عيونهم التعبى المدخل إلى جنان الأحلام هذا هناك قال أحدهم – كأني الذي أشرت وقلت : - تلك هي البوابة ،... وأولئك الذين رأيتهم جاؤوا إليه عرفوا ولا شك أنه ينظر إليهم ويناديهم مخلصا إياهم من الضياع ، أنا نفسي نظرت إليه ورأيته يسلط علي نظره الغريب ولقد غمز من أسته ... إن طريقي إليه يمر ما بين ضياع في الدروب كما في التاريخ وتمكن من المكان كما في الحفريات)" 19" فموقف العائدين في هذه الصحراء في زمن مضى يتطابق وموقف المنقِب اليوم الذي يختار البوابة بناء على حدس تاريخي بمجموعة اختارت المكان موئلا حتى يصل الأمر إلى الرؤية التي تقارب الحقيقة فقد رأى أشباح القادمين وإشاراتهم إليه وسمع كلام أحدهم وهو يشير إلى البوابة ، فضلا عن تفسيره لعناء الجسد ومتطلباته في جو حار بحثا عن راحة واطمئنان في مكان يتم تخيله بوصفه جنة أحلام في مكان مقفر ، وكما قلنا مسبقا فإن التل يناديهم أيضا لينتشلهم من ضياع في الدروب ولكنه يضمر ضياعا آخر من جديد ، لأن العمق الذي تدعو إليه التلال عمق وهمي يقود إلى أوهام جديدة ، كما هو الحال مع الأجساد التي يحيل عمقها إلى مناطق مجهولة وضياعات أخرى لا يمكن تفسيرها إلا بالتمكن من المكان ، وهنا يكمن الحل لمشكلة الانفصال الجسدي السابقة ، فالطابع التاريخي لحالات التفكير يمنح الجسد بُعداً للخروج من تداخل الرائي والمرئي .
فلنعد الآن إلى عملية الحفر لنشاهد هذا المشهد الرائع جدا الذي يماثل الأجساد بشكل عجيب مما يبرر لنا عد التل جسدا : ( أمسكت بفأس وضربت وواصلت الضرب ومع كل ضربة كنت أفقد انفعالا وأولد آخر، وبت جسدا واحدا مع رأسي وأفكاري صعودا ونزولا موقعا حركات متسارعة اختلطت مرحة بإيقاعات انتشرت حولي ، أغلقت تفكيري على عملي الجسدي ، واقعتُ التل ، واقعتُ امرأة ، واقعتُ الهواء ، هكذا ، نزولا وصعودا ، وسلاحي حاد ، وقلبي يدق ، ورأيت يداً أعرفها ، يد سميرة التي أمسكتها محاولاً سحب جسدها إلي ، يد رخِصة قاومت ، قالت لا ، ليس هذا ، دعنا من هذا ، يد وعينان مبلولتان ، وقلبي يضرب لكن حزناً اندس في عظامي من تأثير عينيها ، كانتا فارغتين ميتتين إلا من غلالة رقيقة من الدمع ، تركت يدها ، إصبع واحد ظل في كفي المرتخية هنيهة ثم هوى ، أمسكه الآن ، أقبض على اليد كلها ، ألويها ، أسحب الجسد وأهوي فوقه ، أنزل وأصعد ، أضرب وأوسع طريقا ، أضرب وأسمع أنات من حولي ، .. هم .. هم .. هم )" 20" عجيب لأن المماثلة بين الأجساد وصلت قمتها هنا حتى أننا لم نعد نعرف أيتحدث في مشهد المواقعة الثاني أو الأخير عن مواقعته لسميرة واستذكاره له أم عن ضربه بالفأس لجسد التل وهو يحفر ، لأن المواقعة اختلطت بأصوات يمكنها أن تكون صادرة من الحفارين ويمكنها أن تكون صادرة عن المنقب وسميرة ، ولو قارنا بين الموقف المتراخي للمنقب وهو يفكر أو وهو يستسلم وبين الموقف العامل بجد لأمكننا ملاحظة الفرق واضحا حتى في الجمل المتلاحقة والقصيرة والمفصولة بلا أدوات ربط وكأن الحركات تجري بلا ترتيب تماما وكأن الحركات تتم في زمن واحد ، بينما يميل نحو الجمل الطويلة والمسترسلة والواضحة والهادئة في موقف الاستذكار لحالات تفكير تسبق فعل المواقعة ، كما أنه منذ بداية مشهد المواقعة صرح بأنه يواقع التل ويواقع امرأة ويواقع الهواء ، لقد جعل من الجنس الجسدي ملهما عظيما تصل العلاقة فيه بين المنقب والتل وبين المُواقع وحبيبته حد العبودية والخضوع التام .
إن هذه المماثلة بحاجة إلى مزيد من التفصيل فكيف تم عد تل من التلال الأثرية جسداً ؟ يطرح المنقِب مسألة الجسد والأثر على النحو التالي : ( لم تكن سميرة غير خربشة على جدار كبير ... سألتني هل يمكن أن نتحول يوما إلى آثار؟ ... ليس كجثث بل في الحياة ؟ ... أجبتها .... بيني وبينك إذا كان علي التحول إلى شيء ما فسأختار أن أكون أثرا ... أثر لكن الأمر يتصف بتعقيد كبير فالأثر ليس هو ما خلفناه وراءنا من ذكرى وحب وظل وندم ، ليس الحطام الذي أصبحنا عليه ، ليس جرحا قديما ، فالماضي لا يعود ، لكنه ضرب من الوجود الرمزي ، صورة نظهر بها وقد انطوت أسبابنا ودوافعنا ولم نعد نعرف من نحن وإلى أين نمضي)" 21" الأثر إذن علامة ، أن يكون الفرد علامة بين علامات مادية كثيرة منتشرة على سطح الخليقة ، أن يكون جسدا فقط بلا تأثير أو تداخل تاريخي ، الأثر هو العلامة وقد تخلت عن مرجعها ودلالتها ، لتكتفي بكونها علامة ، لا تريد الدلالة ولا تبتغيها ، ولا تريد أن تندرج ضمن نظام دلالي أو علامي ، بل تكتفي بهبائها وانسيابيتها ولامعقوليتها في آن واحد ، فهل يمكن للجسد أن ينوجد بهذا الشكل؟.
ولقد قرأت تحليل حسين سرمك لهذا المشهد ولم أجد فيه ما يمكن الاقتناع به فهو يقول : ( فعلى التل تشتغل الطفولة ملتحمة بالرجولة وتتستر بها ، الرجولة تنجز فعلاً معقلنا مباركاً في الحفر واكتشاف اللقى وإعادة بناء تاريخ الوقائع في حين أن الطفولة المعصوبة تمارس حفراً من نوع آخر تولغ فيه في إشباع الرغبات المحرمات وسميرة المنتجة الآثار، التي تمنعت ورفضت نداءه حين سحب يدها يوم زارته في بيته – وهو سلوك سيئ من عالم آثار تجاه ضيفته – ظل هاجس مواقعتها لائباً في أعماقه فوجد فرصة إشباعه ناجزة تحت فعل الحفر الحماسي الملتهب – تُرى كم من فرص الإشباع الرمزية والمتسترة التي توفرها المهن التي نختارها لدوافع لاشعورية؟) " 22" ، وعجبا كيف يمكن للناقد والمحلل الأدبي أن يتدخل في أخلاقيات العمل الأدبي ، فقد حكم سرمك بأن محاولة إغواء سيدة زائرة إلى محلل آثار عمل سيء ، وهو حكم أخلاقي لا يمت بصلة لا للتحليل النفسي ولا للتحليل الأدبي ، ثم يطرح تساؤلا يظن أنه بذلك ينتج أمرا مفيدا ألا وهو عن علاقة المهنة بالدوافع اللاشعورية .
إن العلامة لا تقنع بانعزالها وتبحث دوما عن المواساة في عالم مؤلم ، يواصل المنقب الحفر مع أصدقائه : ( الحَفْر الحَفْر الحَفْر إيقاع قبيلة متوحشة تنتسب لجد كان حفارا وما زال يعيش بيننا متابعا بحرص ما أورثه لأحفاده ، كان في الأصل نباشا للقبور ... فأسس قبيلة من الحفارين غذى بأبنائها غريزة تعتاش على عذاب الحفر ولذاته المحرمة ، ... الحفر إذن والحفر دائما ، كنا نحفر مدفوعين بتقديس أخرس وبأهداف ضائعة ، فحيثما نولي رؤوسنا إلى الأرض ننسى ما نبحث عنه ، كأننا لا نبحث عن شيء ولا هدف لنا سوى هذا العمل المجنون )" 23" فلا بد لنا من البحث عن أصل الأثر ، ولكننا لن نجد هذا الأصل حتى مع الحفر المتواصل ، إن مسألة الحفر الدائم تنتسب إلى جَد عريق في الآركيولوجيا ، هذا التقديس لأصول ضائعة ورغبة عارمة في البحث عنها في الجوار ، بالغوص نحو الأعماق دوما ، حتى يضيع الهدف المنشود ألا وهو إيجاد المعنى والبحث عن العلة ، ليتبقى من هذا المجهود المتواصل ، رغبة بلوى بالحفر ، رغبة بالنبش والتفتيش ، وراء الجسد وخلفه وبين ثناياه علنا نتوصل إلى الفهم ، علنا نتوصل إلى إيجاد النظام لنعلل للعقل التزامه بمبادئ الحفر المستمرة .
ونتيجة لهذا الحفر المتواصل والبحث عن الآثار توصل رفاق التنقيب إلى كلمات مبعثرة منقوشة على آجرات وابتدأت لعبة العثور على المعنى : ( صبي وكاغد / يا منجي من المهالك / الغوث الغوث / الغوث يا مسلمين / أين رحل نقيب الصبا والقلم / جنون وذل / .... ) " 24" هكذا يصبح للغة جسدها أيضا ، ولم يتم التوصل من هذه الآثار المبعثرة سوى إلى تكوين مفهوم للاستغاثة ، فهل هذه هي حياة الأجساد ؟ أتشكل في النهاية معنى لا يعود مرتبطا بواحد منها على الإطلاق ؟ أمكتوب علينا أن تشكل أجسادنا جوقة لمعنى واحد ؟ .
وفي جولة أخرى من التنقيب يتم اكتشاف نسخة من كتاب البيان والتبيين للجاحظ قام الناسخ " " بإيداع بعض العبارات المستغيثة بين السطور مجددا ومنها : ( لو سمع الزهري قصتنا لقال أعد الحديث أعد الحديث حتى يسمع الصخر ) ومنها أيضا : ( والله سكتنا فلم نسلم نسمعك صوتنا لتعلم وتتصرف ) وغيرها من الإشارات التي تطلب الإنقاذ" 25" ، ثم يتم اكتشاف مجموعة رسائل أخرى وضعت داخل جلد الكتاب وهي توضح ما جرى لشخص داخل هذا المكان الموضوع لنسخ الكتب " 26" وهي مشاهد تدور حول المغزى نفسه علاقة الأثر بالجسد وعلاقة الجسد بالحفر والتنقيب الدائمين بحثا عن معنى ، على أن اكتشاف نسخة من كتاب البيان والتبيين لم يكن اعتباطيا في الرواية فهذا الكتاب يخدم غرض الرواية الأساس وهدفها في آن واحد ، فمنهج البيان كان محاولة في التعرف على الدلالة وأنظمتها ، مع شعور مسبق من قبل الجاحظ بأن العلامة أو الدليل كما يسميه ناقص دوما وهو بحاجة إلى أشياء أخرى تنضاف إليه ليكون دليلا تام الدلالة ، والرواية تتحدث عن هذه الفجوة في الجسد وفي العلامة : ( هناك دائما في حياتي عمل ناقص على نحو خطير ، عمل مبدد إن لم يكن بأيدي الآخرين فبيدي الاثنتين وعن عمد ، هناك دائما خراب في منطقة ما ، فجوة ، نقص ، لا يبرر ولا يمحى ولا يغلق )" 27" .
كما تتكرر المسألة نفسها حينما قادت حمامةٌ المنقبين نحو اكتشاف آخر فقد عثروا على اسطوانة فيها نص آخر مكون من عشر ورقات على شكل قصة تحكي حكاية شاب دفعه الزمن نحو دار النسخ هذه ، وفي هذه الورقات وصف دقيق للدار ووصف للتصرفات والأخلاقيات وغيرها ، عثور على أدلة جديدة تقود إلى أدلة أخرى فالآثار تنتج آثارا والعلامات تنتج بدورها علامات ولذا فبقدر ما تساعدنا على الفهم تفتح أمامنا إمكانات جديدة للغموض" " .
الآثار إذن ميتة ، والعلامات واللغة والأجساد ميتة أيضا ، فبعد أن وجد المنقبون هيكلا عظميا في منتصف السلم وثلاثة هياكل ممدة على الأرضية يحوصل المنقب الموت قائلا : (الموت لا يرى ، لا يوجد في القبور ، بل يمشي على الأرض ظلا للإنسان ، ... هناك يضحي كل شيء من حصة الأشياء ، وإذا كان ثمة علامة على شيء يرجِّع عمل الحي وخرقه وتدبيره وأخلاقياته في تلك الظلمة فهي الهندسة الحزينة شبه الكونية حين الحي يساعد الميت ، حين يلجم مخاوفه في شعائر يخفف فيها من عذابه ويديم توقعات ثابتة لنفسه عند الموت ، توقعات الكرم والاحترام والكرامة ... فما بال حراس هذه القلعة الساهرة على الأمن يموتون بلا قبور؟)" 28" إن لدينا التزاما تجاه الأجساد الميتة وهو أن ندفنها جيدا لكي تبتعد عن مرآنا ولكي نقنع أنفسنا بعدم الموت ونبعد عن تفكيرنا مشكلته الكونية ، ولكي نخفف من عذاباتنا بوصفنا أجسادا آيلة إلى زوال محتوم ، إن المنقبين يقفون أمام ميت غير مدفون متسائلين عن سبب عدم دفنهم ، وتثور في دواخلهم رغبة عارمة في التخلص من علامات الموت التي تثار حال رؤية الهياكل العظمية .
( كأننا لم نعش شبابنا بل مثلنا أدوارا ، كأننا أشباح مروا مرورا من نافذة مضيئة ، لقد شخنا سريعا ، بعد أن طحنتنا المعارك الخاسرة ، وأعدنا اكتشاف أفكارنا المخذولة كعدو آخر يتربص بنا )" 29" هذه هي خاتمة الجسد وهو يفكر بنهايته بعد أن يشارف على النهاية ، يستذكر ما مضى ويرى بأنه مر في هذا العالم كالشبح ، مثَّل دوره ببساطة ودون كبير عناد ، على الرغم من مباهاته بالاختلاف والتفوق ، العلامة تمثل دورا لتملأ المعنى وتكمله ، ذلك المعنى العام الذي يزيد عن حجمها كثيرا ، تمثل ثنية صغيرة في عالم كبير ، خيطا من ضمن آلاف الخيوط في نسيج لفنان ماهر .
وعلى الرغم من أن العلامة تهتم بانفرادها واختلافها وتحافظ عليه إلا أنها تنخرط في إدراك جزئي لمفهوم يتشكل منها ومن غيرها لتتكون من المجموع عبارة واحدة فقط ضمن مجموع أكبر للعبارات ، العلامة تخضع إذن لمفهوم غير اختلافها ، إنه مفهوم اندماجها وتواؤمها مع مجموع أوسع منها: ( لا بد من حياة أخرى فإذا لم نعشها نتمسك بحلم ، نخلقها في حلم ، وما همنا ... إنه حلم ، وماذا كان حلمي أنا؟ ... اختصرته بكلمة واحدة ، المخيم ، ... فالمقصود ليس خياما بل حلما ، وتوابعه صعبة  ، وهي أن يقطع المرء جذوره باستمرار ، وإذا لم يستطع ذلك لسبب من الأسباب فعليه في الأقل أن لا يعتد بها وقادر على نسيانها ، ... بهذا فقط يحيى الطارئ بالثابت ، خارق الأفق بالعائد إلى البيت ، الحركة بالسكون ، كيف نحقق هذا ؟ ... إن لكل إنسان خبرة مخيم ، خبرة منسية تنبثق فجأة )" 30" لأن المجموعة المنتظمة والمتوائمة من الأجساد والعلامات لها تاريخها الخاص ، وهذا التاريخ يكون حاضرا في تكوينها وتنظيمها وتوجيهها ومنحها قيمتها وتوجهاتها ، وأما مسألة قطع الجذور فعلى العلامة وعلى الأجساد أن تقطع علاقتها بأصلها المادي الموجز والمحدود لتحتل آفاقا أخرى قد تكون بعيدة عن ذلك الأصل ، ومع ذلك هي لا تبتعد كثيرا جدا إلى الحد الذي تفقد فيه أصلها تماما لأن هذا يجردها من كونها علامة ، بل هي تبتعد محفظة على وشيجة اتصال مع الأصل والموقع ، الحركة والسكون ، الخارج والعائد .
ولكن المشكلة أن الجسد والعلامة يجتمعان في عدة مخيمات ، فهو قد ينخرط في مخيم وتجمع ما ولكنه قد يغادره إلى تجمع آخر عبر رحلات مؤقتة ، لقد نقل الرواي وجهة نظر الزوجة تجاه المنقب والتي قالت له : ( حين تصل إلى البيت بعد سفر ، كنت تتصرف ببلاهة وغربة ، كأنك دخلت إلى بيت ليس بيتك ، وشاهدت أثاثا لا يعود لك ، وأنا لست زوجتك ، ... في حالتك تلك لم نكن نجرؤ على لمسك ، كان جسدك يقاومنا ، يقاوم بيته ، يكره أن يُلمس أو يلمِس ، كنت تبدو ذاهلا ، غير مصدق ، غائبا في مكان ما ، وكأنك مورط في حضور جديد لا تفهمه ... كنت تخطئ في مكان الحمام ، في خزانة الملابس ، ... وكنت تردد كلمات ... مملكة الفراغ ، بهاء اللاشيء ، ... لو كنت سألتك لأجبتني بكلمة واحدة : لا أدري ، ... اكتشفت أن لك جاذبية اليتيم الذي يعرف كفايته ، يتيم ذكي معزول حسم أمره مطاردا احتياجاته الروحية ولا يتنازل عنها ) فما دام قد غادر مخيمه مع المنقبين ليعود إلى بيته ، المخيم الثاني ، فإنه سيجد نفسه غريبا لمدة من الزمن ليعود بعد ذلك إلى حياته الطبيعية ، لكي يصادف مجددا هذه الغرابة في العالم المحيط في مخيم آخر وتجمع آخر ، العلامة دائمة التجوال والترحال في مخيمات تشهدها للمرة الأولى ، وهي في كل مرة تحاول التواؤم مع المحيط من الأجساد والعلامات ، ومع ذلك هي تحافظ على اختلافها وعدم اندماجها التام ، فقد أجاب المنقب زوجته : ( اليتيم الذي عرفتُه في داخلي فهو ذلك الذي سعى إلى جسد جديد غير مولود من أم وأب بل مجرد كيان سقط على الأرض محاولا بمجهوداته أن يثبت آهليته الشخصية للحياة والحب والعمل والتفكير ... في ما مضى شكلت صورة عن نفسي بعد أن أثخنتني الجراح : باب برفاص يدخل ويخرج ولا يعرف منه دخول أو خروج ، ... هل هذا ما كنته حقا ؟ لا أدري ، أدري باختلافي ليس إلا ، وبسعيي أن أكون مختلفا ) " 31" .
هذا هو عالم الجسد باختصار ، عالم مليء بالفوضى والانشغال والاختلاف الموضعي والترحال الدائم في سهوب يزورها للمرة الأولى : ( لا نستطيع أكثر مما استطعنا ، لن نغير شيئا ، لن نثبت شيئا ، دليلنا راحل ومُرَحَّل ... ، لا يريد ، لا يسمع ، لا يرى )" " ، فهل تعرفنا عليه؟ .

2- المطلق
رأينا بأن الجسد بحاجة دوما إلى ما هو خارج عن حدوده وإطاراته ، ورأينا بأن هذا الخارج بالنسبة إلى الجسد هو التاريخ الحاضر في التفكير وهو الذي يمنح الجسد أبعادا جديدة ، ولكن ... هناك ، على الحافة المقابلة للجسد يمكث المطلق وهو متحرر تماما من الجسدية ، يرقب ويصور ويوجه .
فعلى الرغم من الاختلاف ومن الخروجات المستمرة على النمط هناك دائما عودة نحو الأفق الممتد ، نحو المطلق وهو يتجلى بألف شكل ، وواحد منها على الأقل الخط الديني : (هناك في البدء العلاقة الرجولية بين صوت الجوقة الدينية الذي اختزلته كخط أفق والصوت المنفرد الذي تشبَّه بطائر محلق يناور خلفه وفوقه في طيرانات رشيقة ليعود راجعا مسلما نفسه إليه ... وكانت هناك دائما تلك اللألأة الغامضة التي تدخل إلأفق والمستعادة دائما في خيالي ، ... لست متأكدا إن كانت تلويحة وداع لوشاح يغرب أو مجرد تذكير صحي بفجر العاملين والمصلين ، لكن اللألأة في ذاتها تشير إلى النأي وليس إلى الفجر فهل تكون رمزا لطريقة في الحياة لا تتماسك إلا بالابتعاد والرحيل والغياب ؟ لعلها شوق مستغرق ، خسارة لا تعوض ، حب ليس له صورة بعد ، وقد يكون خوفا ، فالخوف لألاء )" 32" بل أنه تصوف ، عودة الرجل دوما إلى الخالق الواحد الذي يمسك بمقاليد عالم منتثر ، عودة نحو الخط المرسوم بمهارة فائقة ، ذلك الخط الذي يتضمن الانتظام ويسمح بالاختلاف المحدود ، لأنه ليس هناك اختلاف مطلق ، المطلق وحده المختلف ،الواحد وحده المختلف ، وما نحن سوى اختلافات بالنسبة إلى أفق يجمع الجميع في بوتقة واحدة ، إننا نتدحرج في حلزون ، وليس لأحد منا عن الآخر أي اختلاف ، كلنا مختلفون ، ولهذا نقل المنقب لنا عبارة قالها صديقه برهان نقلا عن متصوف إسلامي : ( إنه لا يأخذني إليه فآنس به ولا يتركني لنفسي فآنس بها )" 33" .
وفي الرواية نلفي بحثا مضنيا عن هذا المطلق ومحاولة في حصر أبعاده دون جدوى ، إذ نجد مثلا هذا الاستفهام : ( أين الرأس؟ أنا أب والأب رأس ، نوع من الرؤوس ، وعلي أن أكون الاثنين ، وكنت كلما أجمع قواي أسمع ضجة الفراغ التي ما زال رأسي يحملها من الموقع : ضجة سماوات فارغة وقيعان لا حدود لها ، ضجة رجل خفيف وحيد مسؤول عن لا شيء كبيرا)" 34" وتساؤله عن الرأس يعني من ضمن ما يعنيه تساؤلا حول المطلق لأن الرأس بالنسبة للإنسان منبع التفكير والإرادة ، والمطلق يتمتع بمنحه لهما أيضا ، ولذلك أردف بأن الأب رأس ففي الديانة المسيحية يتم اعتبار الأب منبعا للوحي وطريقا له ، وعلى هذا الأب أن يتخلى الآن عن دوره بوصفه جسدا ليمارس دورا آخر هو دور المطلق والمساعد له في هذه البسيطة ، ولذلك يقرر بأن له دورين دور الأب ودور الرأس ، المفكر والعاطفي في الآن نفسه ، مواجها بخفته ووحدته فراغا كبيرا يتمثل بالمطلق الكبير .
ولهذا يتوصل المنقب إلى البوح بانثيالات غير مفهومة أحيانا ومنها مثلا قوله : ( أذكياء يتزاعمون ويتخاصمون ذلك لأني . ولأنك لا تقول أشياء صحيحة ، ... خذ هذه الطعنة لتخفق أكثر مما أنت مخفق : لن تسترجع ليلى فباسترجاعك لها تسترجع كرمك وتخسر جميع النقاط التي كسبتها لصالحك في سباق التخلي والكرم الذي أقامته أمها ودخلت فيه كخبير . ردها إن استطعت أيها المخادع . مجنون ! مجنون ، رد هذه الثانية : أنت سعيت إلى إبقاء جميع نقاط التوتر قائمة ومفتوحة .... قل أي شيء من أجل أن تكون متفتحا هذا لأنه ، أجل ، فكيف تدري ولا تدري ، كيف يبني شخص يقينه من دون نضال وإرادة ؟ ماذا ؟ هكذا اذن يا قذر ) " 35" فهناك أولا كلام منقطع عند قوله ( ذلك لأني ..) وهناك ما يشبه الرد عليه في العبارة التالية مباشرة ( ولأنك لا تقول ... ) وعبارة ( خذ هذه الطعنة ...) وعبارة ( ردها إن استطعت أيها المخادع ... ) والتي لا نعرف بالضبط من الذي يتفوه بها ومع من ، ظلت العبارات سائبة هكذا تنقل تصورات وانثيالات تشابه انثيالات الوحي في حالات معينة ، فضلا عن أن الكلام يصبح بغير معنى أحيانا كما في قوله : ( هذا لأنه ، أجل ، فكيف تدري ولا تدري .... ماذا ؟ هكذا إذن يا قذر ) وكأن في هذا الكلام الكثير من العبارات المحذوفة والتي جعلت من المتعذر فهم مغزاه ، لكأننا أمام كلام تلقيه أرواح غريبة على رجل مجنون .
وأمام مطلق كهذا نحن بين خيارين فإما خيار التسليم التام وإما خيار المعارضة بلا جدوى ، وهذا ما نجده في المقارنة الواضحة بين صورتين لشخصيتين من الشخصيات التي تم العثور عليها في التنقيبات ، صورة عباد الذي : ( لا شك أنه حصل على تدريب أخلاقي قوي ، فأمه علمته الصبر وعدم الحكم على الناس واحترام من هم أكبر منه ، فظل مخلصا على ما تدرب عليه ، لم يطلب أكثر ، لم يتجاسر ، ظل يطوف على السطح ، فاترا ونزيها ، ونظنه عرف أشياء كثيرة قاومها في قلبه ، أو لم يصدقها ، تناساها ولم يكتب عنها ، ... ظل يمتلك القدرة على النسيان ، لم يتغير ،... لم يطلب في النهاية إلا ما يقدر الآخرون على منحه إياه من دون منة ، وهو يرجو ، ولم يتحقق هذا الرجاء لألف عام ، ... شباب كامل ينقضي دون قفزة طيش واحدة )" 36" وهو المستسلم للمطلق وسعته وامتداده وشموليته ، ويمكن تلخيصه بالعبارات ( لا يطلب ، لا يغوص ، لا يتحرك ، لا يتذكر كثيرا ، ولا يتحدث كثيرا ، ولا يتغير ، ولا يرجو ) ولكنه من أجل ذلك كله لم يحصل على شيء ، خرج فارغا من الحياة كما دخلها ، وخرج وحيدا كما دخلها ، مستسلما لنير النهاية وذل الشكاية وقهر القيود .
أما الطباخ فقد أوهم نفسه بأنه يمتلك العالم بامتلاكه المطبخ فأصبح القِدر الذي كان رمز الطعام والحياة ، قَدَرا أو رمزا للموت إذ سمم جميع من في القلعة : ( خان أصدقاءه لأنه ادعى حمايتهم ، .... إنه يائس ، مخبول ، رمزي ، تجاربي ، يرد المجرد إلى التجربة ، ويرد الأخيرة إلى أصل بعيد لا تمسكه التجربة ، .... كان حرا متورطا في حريته ، متوهما بها ، ... وعلى نحو ما بات إلها ، لأن الجميع يأكل من مطبخه الكوني ، وبحركة بسيطة ، بفعل إرادي من الإله ينقلب رمز الحياة إلى رمز الموت ، ... ولعله أدرك في نهاية المطاف وبحدس مجنون أن آثامه وآثام المكان سيتكفل بها الله فلا شيء يدوم )" 37" وكما فعلنا مع شخصية عباد يمكننا تلخيص شخصية الطباخ بأنه ( خائن ، يائس ، مخبول ، رمزي ، تجاربي ، واهم بالحرية ، تصور نفسه إلها ) ومع ذلك يقر أن الآثام التي اقترفها بقتل من حوله سيتكفل بها الله وسيعاقب كلا على فعلته ، موكلا هكذا كل شيء في النهاية إلى مطلق يتولى الجميع وهو المسؤول عنهم ، ولكن وقت هذا التولي سيكون في حياة أخرى ، حاول الطباخ أن يتخلص من واقعه اللعين بالثورة ولكنه اكتشف أن الثورة تعني رفضا للمطلق وانصياعا من جهة أخرى إليها ، ومن هنا تم تثبيت فكرة نفي الاختلاف ، الكل متشابهون أمام الواحد المتفرد .
وأما الشخص الذي بنى هذا المكان المؤلم لنسخ المخطوطات اعتمادا على اليتامى الذين كانوا يعملون بلا رحمة ، فهو الزماني ، وصورته على الشكل التالي : ( انقطع في هذا المكان عن طريق تجربة شبه صوفية : كآبة وتوجع وخوف شديد من الله وتقشف ، فأتاه ملاك في النوم وأنقذه من محنته لقاء خدمة يقدمها للأيتام ... الصوفي ينتزع قبل كل شيء جسده ، هذا المباشر من فرديته المؤكدة ، فما دام الجسد الاجتماعي والسياسي قد تمزق فيجب انتزاع الجسد الفردي منه ، ... فكأن الجسد يستبدل سلطة بسلطة ، نظام عسف مباشر بتمارين صعبة على اليأس من العالم ، الهرب من العذاب الظالم إلى العذاب العادل)" 38" والزماني الذي يمكن القول بأن اسمه مصاغ من الزمن هو الرأس بالنسبة لهذا الموقع ، ومعلوم لدينا مثلا أن الزمن يقترب في مفهومه من الله " 39" والزمن هو المطلق النسبي بالنسبة إلى عباد والطباخ ، ومع ذلك فهو مندرج تحت طائلة البحث المحموم لدى الجميع عن مطلق يغادرنا باستمرار نحو تخف تثقل وطأته علينا جميعا ، الزماني الذي صيغ اسمه من الزمن مشابه للمطلق من جهة وساع إليه من جهة أخرى ، والزماني رجل متصوف انعزل في هذا المكان المقفر بعد أن وعده الملاك بالتخلص من مكابداته ، لقد هرب من الجسد الاجتماعي ، من المخيم ، ليبني مخيمه الخاص ، ليمارس فيه عذابا وفق رؤيته هو والذي يراه عذابا عادلا أفضل من العذاب الظالم الذي كان يعانيه ، من العذاب الإجباري إلى العذاب الاختياري .
يقف المنقبون أمام المشهد نفسه ، أمام عذاب ظالم تم صبه على هذه المجموعة من الأجساد التي لم تقبل الانصياع لنظام المطلق ، يقفون متسائلين : ( ما معنى البحث عن البقايا نجمعها معا ونصلي عليها ثم نعود ندفنها ؟ هل نحقق العدالة ؟ أم نسعى لراحة نفوسنا ؟ لا يمكن سحب الموتى إلى الحاضر ، ولا تغيير الأحكام التي صدرت ، هكذا هي الأمور ، هكذا هي الحياة ، لا أمل )" 40" ، هل ينفع الجسد الميت أن نجمع أشلاءه ونصلي عليه وندفنه ، هل ينفع العلامة أن نفتش فيها عن معناها فنقتلها أولا ثم نحجزها في قبر خاص بها ونصلي عليها ؟ ما نفع ذلك ما دامت الحياة نفسها بلا أمل ، وما دام المطلق ونظامه يواصلان التحكم بالأجساد دون أن نفهم العملية برمتها ، مادامت الأسئلة بلا أجوبة وما دامت الأجوبة ناقصة دوما ، وما دام الفناء والزوال هو النهاية المحتومة لكل الأجساد .
هذا المطلق الذي يواصل التخفي والتلويح يصعب على الفهم والإدراك ، لقد كان زهير : (يرسم لكنه في حالته تلك كان يتمثل أفكارا ، رسم الكثير من الآفاق ، واجدا في المدى المتسع للسماء والأرض والمنظور المتلاشي بينهما رمزا لما يمكن أن نلتقي به في رحلتنا ، خارج الزمن ، وفي حنين إلى المطلق ، وكان ما كاد ينتهي من رسم كهذا حتى يمزقه )" 41" لأن الوصول إلى حل مع المطلق أمر يصعب تحقيقه ، وحده الاستسلام والإذعان يمكنهما أن يقوداننا إلى راحة جمة ، وحده اتباع الخطى المرسومة بدقة يمكنه أن يقودنا إلى خلاص ، وإلا فلا أمل .
وكتوصيف لحالة الأموات الذين عثر عليهم المنقبون في التل قدم لنا المنقب تلخيصا وافيا حول نظرتهم للعالم : ( اين يحتمي جياع يائسون مرضى في هذا الفرن ؟ إنهم ينزلون إلى السرداب ، فهو مكان بارد مهوى بنظام تهوية عتيد في هذه النواحي ، كما أنهم قريبون من السلم المؤدي إلى السطح عل نجدة تأتي ، قافلة ، عابر سبيل ، كان الشخص الخامس – كما أعتقد – موجودا معهم لكنه صعد إلى البرج ليتمكن من رؤية مدى أوسع ... كانوا في موقع واحد من الترقب والموت )"42 " فالجميع مترقب للنهاية والزوال ، ولكن منهم من قنع بالانتظار فقرر ترقب الموت براحة وطمأنينة في أسفل السرداب وهم ثلاثة ، أي أنهم الأغلب ، وواحد منهم مات في منتصف السلم ، سلم الصعود نحو المطلق للتعرف عليه ، والأخير مات في أعلى السلم ، منتظرا إشارة الخلاص ولكن دون جدوى ، فكما قال : لا أمل .

3- التوازي المتشابه
أشار الناقد محمد برادة إلى فكرة التوازي قائلا : ( أول عنصر يلفت في هذه الرواية، بنيتها العامة القائمة على التوازي والمراوحة بين حكايتين أو مسارين يلتقيان عند السارد بوصفه الفاعل الأساسي في الأحداث وردود الفعل، ومصدر التّأمّل المتفلسِف. غير أن هذا التوازي بين قصتين ومسارين ما هو إلا مظهر تأطيري لبنيتين عميقتين تنتسج خيوطهما وقماشتهما من تفاصيل تتعدى المعيش والظرفي إلى أغوار النفس وأسئلتها الحياتية الموزعة بين رغائب وتطلعات، وصراع بين العواطف والأخلاق، وسعي إلى إعادة تحديد العلاقة بالماضي)" 43"، مع أننا نختلف معه في تحليل هذا التوازي ، لأن التوازي الذي نفترضه قائما قي الرواية لا يجد نقطة تجمعه وأما السارد فهو نقطة الكتابة لا نقطة لقاء الخطين المتوازيين للروي ، كما أننا لا نتفق معه حول وجود بنيتين ، لأن التوازي الذي نفترضه يغير مواقعه باستمرار ويتقلب بين التمثلات العديدة كما سنرى .
مرت معنا مشاهد تلخص وجهة النظر حول الجسد والمطلق ، وكلاهما يسيران بخطين متوازيين ، المطلق مصر على إطلاقيته ، والجسد يسعى جاهدا للتقرب بلا أمل ، ولهذا هما يشكلان خطين متوازيين لا يمكن لهما أن يلتقيا ، إن هذه الرواية تلخص وجهة النظر المعاصرة للفرد ، فقد قرر الدكتور المنقب أن يلغي التخطيط الذي وضعته دائرة التنقيب للحفر في هذا التل والقائم على الكشط من الأعلى إلى الأسفل ، وأن يتبع أسلوبا جديدا ألا وهو الولوج من منطقة المنتصف إلى الداخل ، وفي هذه الفكرة نلفي تجاوز النظرة الحداثية المتعالية وتوجها صوب النظرة ما بعد الحداثية القائمة على التوازي ، ومن غير المناسب هنا أن ننظر إلى هذا الخيار على أنه توجه نفسي كما يرى حسين سرمك الذي يقرر : ( إنه يعدّ اختراق أست التل طريقة مبتكرة وخلاّقة لم يسبقه إليها أحد، طريقة تعتمد على المقترب التحليلي وكأننا في مماثلة مقلوبة للسعي الذي يشكل جوهر فعل علم نفس الأعماق الذي نبدأ فيه – وكتعبير مجازي – من أست البنية العقلية البشرية، وهذا هو ما فجرّه معلّم فيينا في مجال المعرفة الإنسانية، لقد اقتحم العالم النفسي للإنسان من أسفل والراوي يريد اقتحام تلّ الزعلان / تل لاشعوره / الرمزي من أسته )" 44" لأن هذا الكلام على أقل تقدير لا ينتمي إلى التحليل النفسي ، فمن هو المحلل الآن أهو السارد أم سرمك ؟ ، إن الناقد يفترض أن السارد اختار أسفل التل لكي يقترب من المحللين النفسيين ، وما أدرانا إن كان يريد ذلك في الحقيقة ؟ .
لقد مرت معنا مشاهد كثيرة تصور هذا التوازي ولكن الصورة العامة والأكبر للتوازي تكمن في المنقب نفسه الذي قرر أن يسرد حكاية التل وحكاية عائلته المكونة من ابنته ليلى وزوجته المطلقة فاتن ؛ بشكل متواز : ( أنا على نحو ما كتبت حكايتين منفصلتين من دون أن أجد في ذلك أية غرابة ، بل لعلي كنت أثابر في الكتابة عن تل الزعلان وأتحمس لها ما أن تصبح عندي مادة جديدة بشأن علاقتي بليلى وفاتن ، وأعترف أن هذه الحقيقة تتجاوز كثيرا اختياراتي بوصفها لونا من ألوان الكتابة والتقنية ولا أخشى القول أنني ما كنت أستطيع العودة إلى تل الزعلان إلا عن طريق لعبة أخرى ، أو خبرة مختلفة أستطيع أن أنزلق منها ، بالأحرى أستطيع أن أتسلل منها ، إلى تلك الصحراء المخيفة ، والحال أراني مزعوجا ومصدعا من ذلك ، يملؤني إحساس بأنني على نحو ما كنت أمحو تل الزعلان بحكاية شخصية ، وأكثر من ذلك كنت أواصل خيانة نفسي ورفاقي ، وأنني ما زلت أمارس تقنياتي القديمة البائسة )" 45" وبعيدا عن تبريرات المنقب لحكايتيه ، فإن الرواية قامت فعلا على هذا التوازي المشابه لتوازي الفرد والمطلق ، فهي تبتدئ بحكاية منزلية – فردية لتتخلص منها إلى حكاية تنقيبية – جماعية ، لتختتم الرواية بحكاية منزلية أخيرة بعبارة ( أحبكِ ، أحتاجكِ ) .
ويرى محمد برادة مجددا بأننا ( نستدلّ على التفاعل بين البنية السطحية والعميقة في النص، من خلال ما وردَ على لسان السارد: "تماهتْ مشكلتي بالتلّ، فكأني أردت الحفر في منطقتين متماثلتين من حيث العمق والاتجاه: حياتي والتلّ )" 46" وهو قد قال في النص السابق بأنهما بنيتان عميقتان ثم يقول الآن بأن إحداهما سطحية والأخرى عميقة ، ونحن نرى بأن بين الخطين المتوازيين للرواية ليس ثمة سطح وعمق فكلاهما سطحان وكلاهما عميقان في الآن نفسه .
تكونت الرواية من أحد عشر فصلا أو جزءا وفي كل جزء منها هناك فقرات لا تقل عن اثنتين ولا تتجاوز خمس فقرات ، وفي هذه الفقرات ليس هناك أكثر من عالمين اثنين هما عالما المخيم والعائلة ، يتم التنقل بينهما بشكل منتظم ، بل أن ما يتوصل إليه من هذين العالمين يكاد يكون واحدا أو متشابها ، فلو نظرنا إلى المقطع الأول من الجزء المعنون بـ ( فتوق ) لوجدنا بأن المنقب يعقد مقارنة بين ابنته ليلى وشخصية عباد ، الهيكل العظمي الذي وجدوه في التل قائلا : ( نسخت نص عباد الحزين وأعدت قراءته وفكرت بليلى في عاطفة أبوية مريرة لم أعهدها في حياتي ، تكاد ليلى تشبه عبادا في بعض النواحي ، عباد الذي كان أقرب إلى عاطفتي منه إلى وعيي )" 47" ، إن الخارج يذكرنا بالداخل دوما ، وعلاقة التوازي تلك تقوم بين الخارج الذي يخص التل ، والداخل الذي يخص العائلة ، ولكن الخارج والداخل لا يقتصران على هذين المخيمين بل يمكن أن يتوسعا بحيث يصبح الخارج هو المطلق والداخل يشمل التل والعائلة بوصفهما مؤشرين على داخل يدل على الجسد بشكل عام ، ولو عدنا إلى العائلة والمخيم لأمكننا القول بأن المخيم خارج بالنسبة إلى العائلة من منظور الجسد فقط ، فللداخل داخل وخارج إذن وللخارج خارج وداخل أيضا ، وعلى أية حال فالعلاقة بين الخارج والداخل المتراكبة والمتغيرة باستمرار هي التي تبني لنا أفق التوازي في الرواية عموما .
في المقطع الأول من الفصل المعنون ( مفكر رودان والفرسان الثلاثة ) نلحظ تذكرا لمشهد جنسي حصل للدكتور المنقب مع زوجته المطلقة فاتن ، وحينما ينتهي هذا المشهد بنهاية المقطع الأول ، يبتدئ المقطع الثاني بالعثور على باب يسهل عملية الولوج إلى البناء الأثري للتل ، فضلا عن استعماله بعض الألفاظ التي تخص العلاقة الجنسية فهو يقول : ( هذا الشيء الكبير الذي غطاه التراب بدأ يتعرى كشف جانبا صغيرا منه لكنه كان مبينا لمجهوداتنا مدهشا وحاسما وذا دلالة ، فما اعتدنا تسميتها بالعجيزة .... بوابة )" 48"
وفي المقطع الثالث من الجزء المعنون بـ ( اليتامى ) نراه ينتهي بمحاولات جادة من ابنته ليلى بعقد صداقة بين المنقب وزوجته المطلقة محاولة منها في إعادة الوئام بينهما ، وفي بداية المقطع الرابع تأتينا حكاية الحمامة التي قادت المنقبين إلى اكتشاف طرد لأحد الأموات في التل مما عد بشارة جيدة " 49"
وفي الفصل المعنون ( المدير العام والسرطان ) وفي مقطعه الأخير يحاول المنقب التوطن مع الموت محاولا أن يقرب ابنته من فهم حقيقة الحياة التي يجب أن تنتهي بالموت ، وفي الوقت نفسه يبتدئ الفصل المعنون ( اليتامى ) بحكاية ولد صغير يعمل مع المنقبين يعاتب المنقب الدكتور على تنقيبه في جثث الموتى ، قائلا له بأن كل الناس يموتون فلماذا تنقبون في قبور الموتى ؟ " 50" إذ يبدو أن الطفل ظل يحافظ على مسافة بينه وبين الموت لأنه كان يتهم والده بقتل والدته .
وفي الفصل نفسه نلحظ منذ بدايته رغبة من مدير دائرة التنقيب بإقصاء الدكتور المنقب عن مهمة التنقيب كلها بحجة كبر سنه وتعبه الشديد ، وفي المقابل كانت هناك رغبة موازية بإقصاء المنقب نفسه عن حياة مطلقته من خلال أولاد عمومتها " 51" ، وهكذا فالتوازيات التي استحدثت بين الخطين المتوازيين ، توازيات متشابهة ، أي أن ما يقع لأحد الخطين يقع للآخر في الوقت نفسه .
كما أن ما تم التوصل إليه في كلا المخيمين هو النهايات المغلقة دوما ، نهايات قاهرة يصعب احتمالها ، لا يحتفظ الإنسان منها إلا بالمسعى نحو الإنجاز ، حيث يشعر المنقب بأن التل وحفرياته وزوجته المطلقة اتفقا خلسة بأن يقوداه إلى تلك النهاية المحزنة  : ( شعرت أن حياتي سقطت عند النهاية المقطوعة لتنقيبات تل الزعلان ، والنهاية ذاتها انغلقت علي في لحظة قاهرة عنيدة ، لحظة تفاهم فيها الحاضر والماضي من وراء ظهري ، ... نهاية تالية بدت لي مغلقة أيضا ... ففاتن لم تتصل بي منذ أكثر من عشرة أيام ... إذن فقد أغلقت علي النهايات شاعرا بأنني تركت وحيدا في صحراء تل الزعلان المخيفة أعاقب على اختياراتي وبوساطتها فلا فكاك ولا أمل ولا استئناف )"52 " فالنهاية التي توصل إليها التنقيب لم تكتشف ما أرسلت البعثة من أجله ألا وهو البحث عن البئر الشرقية – ولنلاحظ بأن البئر رمز للمتح الذي يعني التقرب والرجاء ، كما أنه منبع الماء الذي هو أصل الحياة – ، وفي الوقت نفسه فإن نهايته مع عائلته انتهت دون أمل بالرجوع وظل المنقب محتفظا فقط بحبه وحاجته إلى زوجته دون جدوى ، ومع ذلك لا يمكن الخلاص من البحث الدائم ، ولا يمكن استئناف ما تم التوقف عنده لأنه ليس هناك أمل بالخلاص.
يبدو أن مبدأ التشابه يحكم علاقة التوازي أي أن المتوازيين ( الجسد والمطلق ) ليسا سائبين يسير كل منهما على هواه بل هما متشابهان في خط سيرهما ، ومع ذلك هما لا يلتقيان أبدا إلا في التشابه ، ويبدو أيضا أن التشابه شرك لا يمكننا الفكاك منه كما قال استورياس مرة ، على الرغم من احتفاظنا أو رغبتنا في الاحتفاظ ببعض الاختلاف ، وهذا ما أحب أن أسميه الاختلاف المتشابه.

الإحالات

 1 - ينظر السرد في مقامات الهمذاني ، أيمن بكر ، ص 35 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1998 .
 2 - نظرية الرواية دراسة لمناهج النقد الأدبي في معالجة فن القصة ، السيد ابراهيم ،  ص 15 ، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1998 .
3  - ينظر تحليلات فلاديمير بروب للأساطير في كتابه: Morphology Of The folktale , Austin , Texas, 1968 , p . 18 – 20 .
4  - لمعرفة المزيد حول أفكار جريماس ينظر : Hawkes, Terence, Structuralism and Semiotics , Methuen, 1977 , p. 93 – 95 .
5  - للمزيد حول أفكار جينيت ينظر : Genette, Gerard, Narrative Discourse , Cornell University , Press, Ithaca, New Yourk, 1980, p.86 – 185 .
6  - رواية التل ، من الموت إلى الحب ، حمزة الحسن ، ص1 ، موقع كتاب العراق في 21 تشرين الثاني 2006
7  - رواية التل لسهيل سامي نادر : أبعاد الواقع وأقنعة الخيال ،  ص1 ،عن جريدة الرياض العدد 12858 السنة 39 في الخميس 7 رجب 1424 هـ
8  - الخطاب الروائي وإشكالية الانفلات السردي ، قراءة في رواية التل للكاتب سهيل سامي نادر ، ص 1 ، في جريدة العدالة العدد 22 في 13 تشرين الثاني 2006 .
 9 - رواية التل ، ص 52 – 53 .
 10 - رواية التل ، ص 12 – 13
11  - رواية التل ، ص 25 – 26 .
12  - رواية التل ، ص 7 .
13  - رواية التل ، ص 20 – 21 .
 14 - رواية التل ، ص 31 – 34 .
15  - رواية التل ، ص 125 .
 16 - رواية التل ، ص 27 .
 17 - انظر مثلا ص 51 ، من رواية السيميائي ساحر الصحراء ، ترجمة بهاء طاهر ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، 2004 .
18  - رواية التل ، من الموت إلى الحب ، حمزة الحسن ، ص2  .
 19 - التنقيب المرير في تل اللاشعور الخطير ، تحليل رواية التل لسهيل سامي نادر ،حسين سرمك ، ص 2 ، في 20 تشرين الأول 2009 منشورة على الانترنيت .
 20 - رواية التل ، ص 62 – 63 .
 21 - رواية التل ، ص 80 – 81 .
  22- رواية التل ، ص 153 – 154 .
23  - التنقيب المرير في تل اللاشعور الخطير ، حسين سرمك ، ص 3 .
 24 - رواية التل ، ص 157 – 158 .
 25 - رواية التل ، ص 163 .
 26 - تجدر الإشارة هنا إلى أن مكان التنقيب والحفر كان مكانا لنسخ الكتب .
 27 - ينظر رواية التل ، ص 188 – 191 .
 28 - ينظر رواية التل ، ص 196 – 217 .
  29- رواية التل ، ص 320 .
 30 - ينظر رواية التل ، ص 272 – 284 .
31  - رواية التل ، ص 134 .
 32 - رواية التل ، ص 232- 233 .
33  - رواية التل ، ص 236 – 237 .
  34- رواية التل ، ص 320 – 325 .
35  - رواية التل ، ص 341 .
36  - رواية التل ، ص 105 .
 37 - رواية التل ، ص 118 .
38  - رواية التل ، ص 234 .
39  - رواية التل ، ص 290 – 291 .
40  - رواية التل ، ص 294 .
 41 - رواية التل ، ص 296 – 297 .
 42 - رواية التل ، ص 308 – 310 .
  43 - قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر )
 44  - رواية التل ، ص 332 .
45  - رواية التل ، ص 333 .
46  - رواية التل ، ص 342 .
47  - محمد برادة ، التل لسهيل سامي نادر رواية بطلها يحفر في ذاته ، ، ص 2 ، كتاب العراق ، في 9 أيلول 2008 .
 48 - التنقيب المرير في تل اللاشعور الخطير ، حسين سرمك ،  ص5  .
 49 - رواية التل ، ص 348 .
 50 - محمد برادة ، التل لسهيل سامي نادر ، ص 3 .
51  - رواية التل ، ص 287 .
  52- رواية التل ، ص 130 ، ويعلق حسين سرمك على هذا النص أيضا بأن أصحاب التفكير الأستي تكون لديهم تصرفات عدوانية ولهذا شاعت ألفاظ حربية في الرواية ، وعجبا كيف يمكن لسرمك أن ينظر إلى الرواية بهذا الشكل الذي يضيع فيه الفرق بين المحلِل والمحلَل ، ينظر التنقيب المرير في تل اللاشعور الخطير ، ص7 .
 53 - رواية التل ، ص 270 – 271 .
 54 - رواية التل ، ص 246 – 253 .
 55 - رواية التل ، ص 221 – 231 .
  56 - رواية التل ، ص 347 .